عبدالعزيز نايف

عبدالعزيز نايف

المقراب

2022-05-01 الساعة 22:37

قديمًا اعتقد إفلاطون أن لكل روح نجمة في السماء، وأن كل روح تنتمي إلى نجم معين، وذهب إلى أن الروح كانت موجودة في السماء على النجوم في حالتها الكمالية قبل أن تتجسد، لكن اشتهت أن تنزل إلى عالم الحواس أو الذي نعيشه الآن... واعترف من بعده أرسطو بالتأثيرات النجمية في الحياة اليومية.

توحي تلك النظرات البدائية بشغفٍ ما يحمله الإنسان داخله عبر الزمن تجاه الكون، فلا يزال يسعى لاصطياد الحقيقة والمعرفة مُسَخِّرًا كل طاقاته وإمكاناته ومهاراته العقلية والمادية لذلك في حُلم لا يُفَضِّل أن يستيقظ منه إلا وقد خرج بعقله من تحت وطأة الجهل بأعظم أسرار الكون، ونفذ بمداركه من أضيق حدود المعرفة إلى حدودها اللامتناهية في فضاء يصير فيه عارفًا بالمادة المظلمة، ومن أين جاءت مياه القمر، وما هي حقيقة الثقوب السوداء، وهل هناك في مكان ما ـ غير الأرض ـ من هذا الكون إمكانية حياة بشرية أو حياة لمخلوقات أخرى، هل ثمَّة توأم أو شقيق لكوكب الأرض ينتظر في زاوية مجهولة من مليارات الزوايا الكونية مرتقبًا أول زيارة لبشري ليخبره أنه على أهبة الاستعداد ليحمل عن أخيه " الأرض " مسؤولية الحياة البشرية...؟، وكيف كانت تلك الأجرام السماوية قبل مئات الملايين أو قل المليارات من السنين، وماذا حدث لها لتبدو بهذه الهيئة، أو كيف صارت على ما هي عليه الآن، وماذا يوجد خارج الكون، وهل له نهاية زمانكية، وإذا كان كذلك فماذا بعدها...إلخ.

أسئلة وأسرار لا نهاية لها، أشعلت في الكثير رغباتٍ انشطارية، حوَّلها الشغفُ المعرفي إلى أحلام وطموحات نفَّاثة، تحاولُ في كل مرةٍ ـ على الأقل ـ الاقتراب من سرعة الضوء للوصول إلى أبعد نقطة ممكنة، وتحقيق هدفها على المدى البعيد. ولإن الإنسان كثيرًا ما وقف حائرًا ـ ولايزال ـ أمام أسئلة لا تنتهي عن هذا الكون وأسراره، فقد آثر البحث فيه من جديد لعله يأتي بالأجوبة التي تُحَرِّرُهُ من حيرته. ومن هنا برز عدد من العلماء المسلمين، الذين برعوا في علم الفلك، وتركوا وراءهم إرثًا علميًا وفكريًا شكَّل في مُجمَله مصدرًا ومرجعًا في الدراسات الفلكية وعلوم الكون والفضاء.

ومن أولئك أبو الريحان البيروني، وهو فيلسوف ومؤرخ وجغرافي ورياضي وفيزيقي ولغوي وشاعر، وقد ترك في هذه الميادين المختلفة مؤلفات هامة جعلت منه ليوناردو دافنشي العالم الإسلامي... ومنهم البتاني، وهو أحد أبرز 20 فلكيًّا في تاريخ البشرية، ويذكر المفكر الهندي سيد أمير علي في كتابه "روح الإسلام" عن البتاني؛ أن جداوله الفلكية المترجمة إلى اللاتينية شكَّلت قاعدة علم الفلك في أوروبا لعدة قرون... ومن بينهم الطوسي؛ مؤسس أعظم صرح فلكي في الحضارة الإسلامية، وأكبر مرصد فلكي عرفته البشرية قبل العصر الحديث "مرصد مراغة"، وقد وبذل الطوسي جهودًا مضنية في دراسة المصنفات الإسلامية، والإغريقية في علم الفلك، ومن أبرز ما أضافه أيضًا في هذا المجال: صناعة أول أسطرلاب على هيئة خطية، وهو الأسطرلاب الذي عُرف باسم "عصا الطوسي"... كما برز عبد الرحمن الرازي؛ مؤلف أكثر الكتب شمولًا لأبراج السماء، وصاحب سلسلة دقيقة من الملاحظات المباشرة، وقد عيَّن كثير من الكواكب التي لا توجد عند بطليموس، وصحح كثيرًا من الملاحظات التي أخطأ فيها؛ وبفضل ذلك تمكن الفلكيون المحدثون من التعرف على الكواكب التي حدد لها الفلكي اليوناني مراكز غير دقيقة... ومنهم ـ أيضًا ـ جعفر الصادق، ويقال إنه من أوائل الرواد في علم الكيمياء والفلك... ومن هؤلاء برز في العالم الإسلامي من أحدث تغييرًا في النظريات والمفاهيم الخاصة بالعلوم الكونية، مثل العالم الدمشقي ابن الشاطر، الذي غيَّر تصورات العالم عن الكون، وهو أحد كبار الفلكيين المُجدِّدين الذين قادوا البشرية إلى تصورات جديدة للكون، ومهَّدوا الطريق لحضارة عصر الفضاء التي نعيشها اليوم... فقد نجح بشكل كبير في تطوير علم الفلك، وفي وضع الأسس الرئيسية لهذا العلم، وخاصة مركزية الشمس بالنسبة للنظام الشمسي.

ولقد أثبتت الدراسات أن كوبرنيكوس استفاد من ابن الشاطر وأخذ من نظرياته الإسترونومية، فمن خلال المخطوطات العربية التي عثر عليها في بولندا مسقط رأس كوبرنيكوس اتضح أن هذا الأخير كان ينقل محتوى تلك المخطوطات وينسبه إلى نفسه. ومن أهم إنجازات ابن الشاطر؛ تصحيح نظرية بطليموس، التي أخطأت في تصورها لأرض على أنها مركز الكون وأن الأجرام السماوية تدور حولها، فأثبت ابن الشاطر مركزية الشمس وأن الأرض والكواكب هي التي تدور حولها بانتظام، وأن القمر يدور حول الأرض، معلِّلًا ذلك بأن الشمس لو كانت أحد الكواكب والأجرام السماوية التي تسير من الشرق إلى الغرب لما تغير شروقها وغروبها. وغيرهم الكثير ممن تركوا إرثًا استرونوميًا، كابن الهيثم، وعمر الخيَّام.

لقد انطلق أولئك الأعلام المسلمون عن نظرة قرآنية واعية يمعنون النظر ويقلبونه في هذا الكون باحثين عن أسراره وحقائقه المكنونة في حناياه، وهم في ذلك يُعْمِلُون العقل في عظيم صنع الله وآياته: "قل انظروا ماذا في السموات والأرض.." " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب" "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض..." "ومن آياته خلق السماوات والأرض..."، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية التي تدعو إلى إعمال العقل والنظر في الفلك، فالكون كله تعبير بليغ وفصيح عن عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وكما أن كل مصنوع يدل على الصانع، فإن خلق الله يدل عليه، وإن كونًا بهذه العظمة والإحكام والإبداع لخير شاهدٍ على الخالق العظيم الحكيم البديع "بديع السماوات والأرض...".

ولكن ما قيمة السماوات والأرض بلا جهاز إدراكي للإنسان!؟ لذلك أودع الله فيه قوة إدراكية، وهي العقل، لكي يُلبِّي تلك الدعوة إلى النظر والتفكر في الكون؛ فمنحه الله العقل ليكون أداته لمعرفة الله، وجعل مبادىء العقل تتناسب مع مبادئ الكون، فالعقل يعمل بمبدأ السببية فلا يمكن أن يفهم شيئًا بلا سبب، ويعمل كذلك بالغائية حيث لا يمكن أن يفهم شيئًا بلا غاية، ثم إن العقل لا يقبل التناقض، تلك مبادئ العقل الثلاثة، هي الهيكل الأساسي للكون، وعليه؛ فإن الكون أحد مقومات التكليف، لأنه ينطق بوجود الله، ويتحدث عن ذلك بلغة يفهمها العالمون على اختلاف لغاتهم.

وفي ضوء ذلك المنطلق القرآني ندرك حقيقة ما كان عليه أولئك الفلكيون المسلمون من شغف وطموح يدفعهم للسعي نحو الله العظيم على علم وبصيرة عبر هذا الطريق الإسترونومي المليء بالأسرار والعجائب المذهلة. ويْكأنَّ النظرية الإفلاطونية تتجلى وتُشِعُّ من حيوات هؤلاء الأعلام، ويْكأنَّ كل روح من أرواحهم قد عادت إلى حالتها الكمالية بعدما قطعت نحو الفضاء رحلة طويلة بسرعة الضوء، ليهبط كل منها في نجمه الخاص به، ثم من فترة إلى أخرى تحاور بعضها بعضًا بصمتٍ مُتَفَجِّر وضوءٍ مسموع، فلا تلبثُ أنْ تُوَجِّه دعوةً إلى كوكب الأرض، تدعو فيها علماء الفلك وروَّاد الفضاء للمُضِي قُدُمًا في اكتشاف أسرار الكون ومكنوناته التي شغلت حياة أصحابها أثناء وجودهم على كوكب الأرض، وكلما توصل فلكيو العصر الحديث إلى اكتشاف ما زاد شغف تلك الأرواح لمعرفة المزيد، وزاد توهُّج كل نجم بتلك الروح التي تسكنه، فهي في ترقُّبٍ وانتظار، كلٌّ منها في نجمٍ ترتادُ مقرابًا تتابع وتشاهد من خلاله ما حدث ويحدث وما الذي سيحدث مستقبلًا، فلم تكن أجسادها التي بليت على كوكب الأرض إلا أوعية مؤقتة ومطايا تمرُّ عبرها إلى مواطن الكمال، ولئن انتهت وفنيت تلك الأجساد، فإنَّ أحلام وطموحات هذه الأرواح لاتزال مشتعلة، ولن تخبو حتى تنطفئ تلك النجوم، ولعلها قد علمت بشبيتزر وهابل وما أنجزاه ووثَّقاه من معارف في علم الفلك والفضاء.

وحديثًا ـ في ذات المجال ـ تمكَّنت بعض وكالات الفضاء خلال سنين من البحث والدراسة والتحليل والتطوير من صناعة وتجهيز المقراب الفضائي: " تلسكوب جيمس ويب، وهو تلسكوب فضائي تم تطويره بشكل مباشر من قِبل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية، ومن المخطط أن يَخلف " تلسكوب هابل " الفضائي في إطار مهمة " فلاجشيب " الخاصة بناسا في الفيزياء الفلكية.

وقد تم إطلاقه في 25 ديسمبر 2021م، وهو يوفر دقة وحساسية محسَّنتان تفوقان " هابل "، وسيخلف تلسكوب الفضاء " شبيتزر " الذي انتهت مدة خدمته في عام 2020م. وسوف يتموضع " تلسكوب جيمس ويب " الفضائي على بعد 1.5مليون كيلومتر خلف الأرض والشمس في نقطة: ( لاغراند L2 )، وسوف يحوم حول تلك النقطة في مدار دائري ليقوم بالرصد. وقبل أيام قليلة وصل تليسكوب جيمس ويب كمبعوث أرض أممي إلى وجهته النهائية ( لاغراند 2 ) بعد رحلة قطع فيها 1500000كم، ودخل في مداره الذي سيدور فيه مع الأرض حول الشمس، وبذلك يبدأ مهمته في المراقبة والتقاط الصور والرصد بينما تنتظر ناسا وأخواتها ما سينقله ذلك المبعوث من معلومات وبيانات.

وبذلك يكون جيمس ويب هدية العلم للإنسان، وسيكون قد قدم للبشرية قاعدة بيانات كونية ستسهم وتساعد في إنشاء وبناء شكلًا جديدًا للحياة الأرضية، وإحداث نهضة تقنية وثورة رقمية ومعلوماتية تجعل من الحداثة ماضٍ غابرٍ وتُلبس ما بعد الحداثة لباس الأمس وتصبغ المستقبل البعيد بصبغة الحاضر، بل ربما ألغت برازخ الأزمنة الثلاثة ( الماضي والحاضر والمستقبل ) وكسرت كل جدار زمني فليس ثمَّة ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، وإنما زمن واحد بأشكال وأمكنة متعددة، يبدأ من حيث ينتهي وينتهي من حيث لا بداية. لعل ذلك حاليًّا يُعَدُّ من الخيال أو الوهم وأحلام اليقضة، لكن من يدري ماذا سيصنع سلطان العلم مستقبلًا، فهو القادر على اختراق أقطار المستحيل وجعل الحلم واقعًا والممتنع مُتَاحًا، وذلك ما تدركه ناسا ووكالات الفضاء المنافسة والمماثلة، فهي تعمل حاليًّا على قياس أمواج الجاذبية التي تأتي من ثقبين أسودين على مسافة 1.3 مليار سنة ضوئية. وفي المقابل مازال العرب والمسلمون منذ 1969 وإلى اليوم في جدل كهل ونقاش مُسِنٍّ في مسألة وصول الإنسان إلى القمر ...! فوربِّ السماء والأرض إنه لخجلٌ عظيم وعارٌ مثل ما أنكم تنطقون أيها العرب والمسلمون، فبعد أن كنا أرباب هذا العلم وروَّاده أصبحنا اليوم كالدَّواب بل وأضل سبيلًا. أين دورنا كعرب ومسلمين؟ وما الذي ينبغي أن نفعله حتى نَبَرَّ بأسلافنا أولئك الرواد الأوائل؟ فينظرون إلينا بعين الرضى ويضع كل واحد منهم مقرابه جانبًا وينام قرير العين.

أليس من الواجب على الأنظمة العربية ـ وهي ذات الثروات والموارد الجبارة والهائلة ـ رصد ميزانية عملاقة للبحث العلمي في مجال الفلك والكون، ودعم وتشجيع المبدعين فيه وأصحاب الميول في هذا المجال، بدلًا من الإنفاق على الصراعات والحروب وتكاليفها الباهضة من الموارد المالية والبشرية؟ لِمَ لا تحلم أمة العرب ـ وهي ولَّادة العبقرية وصُنَّاعها ـ بإنجاب جيمس ويب العرب!؟ وما الذي يمنع أن يكون ما بعد " جيمس ويب " عربي الاسم والجنس والمنشأ...!؟ أم أن الرؤية العربية لا تعمل على الأشعة فوق البنفسجية إلى الأشعة تحت الحمراء إلا في فضاء الجنس واللهو والمجون، ولا تجمع بين قدرات التليسكوبات السابقة إلا للسير في مدارات صفين والجمل ومجرات السقيفة والغدير، والدوران حول المذاهب والرسوم وليس الكواكب والنجوم، ورصد تفاصيل الشقاق والنفاق وأبعاد الولاء، بدلًا عن سَبْرِ أغوار الفضاء...؟!